﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 التوبة (2) 

القسم : محاضرات رمضانية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 29   ||   القرّاء : 16207

          بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وخاتم النبيين أبي القاسم ياسين، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجميعن إلى أن يشاء رب العالمين، وبعد..

تكلمنا عن أقسام الذنوب، وعن الباب الأول لتحصيل المغفرة، وهي التوبة ودعائمها الأربعة التي لا بد أن تصدر عنا، وهي "ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على  أن لا يعود". واليوم وقبل الخوض في أبواب غفران الذنوب الأخرى، سنتكلم عما يصدر عن المولى سبحانه إزاء توبتنا.

حينما يحصل الندم على قبح ما صدر منا، تأتي اللحظة الحرجة؛ وهي لحظة الاعتراف ورد الحقوق إلى ذويها؛ حيث يكون فكر التائب مشغولا ومضطربا، هل سيقبل الله توبتي ويغفر حوبتي، أم سيطردني عن بابه مذموما مدحورا؟

خطورة هذه اللحظة أنها باب للشيطان لينفث في التائب ما يحول دون توبته، فإن كان الذنب صغيرا أوهمه أنه لا يستحق هذا الذنب الصغير منه أن يعرِّض نفسه لمذلة إظهار الندم والاعتراف، وإن كان الذنب كبيرا أرعبه من الإقرار به؛ حيث إن الناقد بصير لا يفرط في صغيرة ولا كبيرة.

ولكن >... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ< الأنفال 30. يبادر الحليم ليشجع عبده الآبق للعودة إلى ساحة رحمته وطهره، وذلك من خلال عذوبة الخطاب في دعوته إلى الرجوع، وإغرائه بحسن الضيافة التي سيلقاها في بيت التائبين لديه.

عذوبة الخطاب

          كلنا نتفق على أن أرفق الناس بنا هن أمهاتنا، إلا أننا نجدهن رغم شدة شفقتهن ورأفتهن ورحمتهن وحبهن لأولادهن، سرعان ما يتبرين منهم إذا صدر منهم فعلا يتجاوز حدود الأدب. مثلا: لو أنا ولدا شتم أمه والعياذ بالله، فإنا نرى أول تصرف يصدر عن الأم أن تقول لولدها: أنت لست ولدي، ولا أنا أعرفك بعد. فتعالوا نسمع خطاب الحق سبحانه لعباده العاصين بل الذين أسرفوا في ارتكاب المعاصي وتجاوز الحدود، يقول تعالى: > قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ< الزمر 35.

          أولا: يبدأ الجليل خطابه بالتوجه إلى العاصين بل المسرفين في ارتكاب المعاصي، وهذا التوجه بحرف النداء (يا). لا أنه يسمعهم عن طريق مناداة غيرهم احتقارا لهم.

ثانيا: يتحبب إليهم، فيقول: >يا عبادي< نسبهم إليه، ولم يتنكر لربوبيتهم ليدخلهم في غربة الوحشة والبعد، وإنما بيّن لهم أنهم مهما فعلوا وتجرؤوا يبقون عباده، فسبحانك ربنا ما أرحمك!

          ولكن تستوقفنا كلمة في هذه الآية العظيمة وهي (تقنطوا) التي تعني تيأسوا يأسا شديدا، لنسأل: لماذا قالها ولم يقل تيأسوا؟ مع أن سياق الرحمة والتحبب في الآية يتناسب مع اليأس؛ لأن اليأس أقل من القنوط، فإذا طلب منا المولى أن لا نيأس، فبطريق أولى لا يريد منا أن نقنط، فإن نفي القليل يستلزم نفي الكثير، كما أن نهيه عن قول (أف) للوالدين يستلزم بطريق أولى قول أكثر من ذلك.

          والجواب: لما كان الخطاب لمن أسرف في ارتكاب المعصية، وليس للعصاة العاديين، أحب الله أن لا يطمعهم برحمته فيغريهم باستسهال المعاودة إلى المعصية لما رأوه من سرعة في المغفرة، فنهاهم عن شدة اليأس ولم ينههم عن اليأس أي عن الخوف من عدم المغفرة، لأن هذا الخوف ضروري للارتداع عن المعاودة، فكأن الحق سبحانه يخاطبهم: أيها المسرفون، إن شعوركم باليأس له وجه لأنكم تجاوزتم الحدود إلى حد الإسراف، ولكن لا يصل يأسكم إلى حد القنوط، فإنكم عبادي، وأنا راحمكم وطبيبكم.

          نكرر إنما جاء التعبير بالقنوط لأن المخاطبين مسرفين وليسوا عصاة عاديين، أما العصاة العاديين فخاطبهم على لسان نبيه يعقوب (عليه السلام) لأولاده بقوله: > يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ< يوسف 87.

إغراء التائبين

          هذا بالنسبة لعذوبة الخطاب، أما إغراء التائبين بحسن الضيافة في بيت التائبين، فنقول: أعد الله لمن دخل باب توبته أصنافا مما لذ وطاب:

          أولا: باب التوبة مفتوح للراغبين أربعا وعشرين ساعة في اليوم والليلة، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ فقال: يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر الله تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإنه فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر، فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله". وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: وإن يوما لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: وإن الساعة لكثيرة، من تاب وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه".

          ثانيا: ينال الداخل باب التوبة حب المولى (عز وجل)؛ قال تعالى: >...إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ< البقرة 222.

          ثالثا: تبديل السيئات بالحسنات بمجرد التوبة؛ قال تعالى: >...مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا< الفرقان 70.

          رابعا: طول العمر وسَعَة الرزق، قال تعالى: > وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ...< هود 3. وروي عن الصادق (عليه السلام): "من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال".

         

          وبهذا نختم كلامنا عن باب المغفرة الأول، وهو باب التوبة، فنتوجه إلى الله داعين:

          "إِلهي أَنْتَ الَّذي فَتَحْتَ لِعِبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، فَقُلْتَ >تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا<، فَما عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ الْبابِ بَعْدَ فَتْحِهِ، إِلهي إِنْ كانَ قَبُحَ الذَّنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنِ الْعَفْوُ مِنْ عِنْدِكَ، اِلهي ما أَنَا بِأَوَّلِ مَنْ عَصاكَ فَتُبْتَ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ لِمَعْرُوفِكَ فَجُدْتَ عَلَيْهِ، يا مُجيبَ الْمُضْطَرِّ، يا كاشِفَ، الضُّرِّ يا عَظيمَ الْبِرِّ، يا عَليماً بِما فِي السِّرِّ، يا جَميلَ السِّتْرِ، اِسْتَشْفَعْتُ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ إِلَيْكَ، وَتَوَسَّلْتُ بِجَنابِكَ وَتَرَحُّمِكَ لَدَيْكَ، فَاسْتَجِبْ دُعائي وَلا تُخَيِّبْ فيكَ رَجائي، وَتَقَبَّلْ تَوْبَتي وَكَفِّرْ خَطيئَتي بِمَنِّكَ وَرَحْمَتِكَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ".

          أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 الحليم العظيم

 دعاء كميل

 الزواج الفضولي

 الاختتان

 زيارة الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) يوم الأربعاء

 كثير السفر

 حديث الغدير

 طلاق من لا تحيض وهي في سن من تحيض

 اللقطة

 أحكام الاستحاضة

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net