مَنْ لَا يُصْلَحُ تَرْكُهُ أَصْلَحُ
في عالمِ العلاقاتِ الإنسانيَّةِ، لا يكونُ التمسُّكُ بالأشخاصِ فضيلةً دائمًا؛ فبعضُ الأشخاصِ أشبهُ بـ(الثقبِ الأسودِ) للعاطفةِ والجهدِ؛ لا يُصْلِحُهُمُ اللطفُّ، ولا يُؤدِّبُهُمُ العنفُ، بل ربما يزدادون إيذاءً - عَنْ قصدٍ أو غيرِ قصدٍ - كلَّما حاولْنا تغييرَهم. والكلامُ كلُّ الكلامِ عَنِ القادرِ على إصلاحِ نفسِه غيرِ الراغبِ، أو الراغبِ غيرِ المُرِيدِ.
العقلانيَّة السامَّة والإصرار على التغيير
(العقلانيَّةُ السامَّةُ - Toxic Rationality) عبارةٌ عَنِ الإفراطِ في استخدامِ المنطقِ أو التفكيرِ العقلانيِّ؛ بحيثُ يصبحُ النظرُ إلى الشخصيَّةِ والعلاقاتِ الإنسانيَّةِ ويكأنَّها معادلاتٌ رياضيَّةٌ أو إشكالاتٌ منطقيَّةٌ، فتُقصى المشاعرُ، أو يُقَلَّلُ مِنْ شأنِ التجربةِ الإنسانيَّةِ، أو يُهَمَّشُ البُعْدُ العاطفيُّ، ممَّا يؤدِي إلى قمعٍ عاطفيٍّ تحتَ شعارِ المنطقِ، أو تبريرِ الإيذاءِ بحججِ العقلانيَّةِ... ممَّا يقودُ إلى ضعفٍ في اتخاذِ قراراتٍ إنسانيَّةٍ متَّزنةٍ؛ ومِنْ أمثلةِ ممارسةِ (العقلانيَّةِ السامَّةِ): مطالبةُ المكتئبِ أنْ يكونَ منطقيًّا، فينطلقُ في الحياةِ متجاوزًا محنةَ الحزنِ التي تتملَّكُه.
ومِنْ أشكالِ (العقلانيَّةِ السامَّةِ) الإصرارُ على تغييرِ شخصٍ لا يريدُ أنْ يتغيَّرَ؛ حيث يرى عالمُ النفسِ الأمريكيِّ (ألبرت إليس - Albert Ellis)، مؤسِّسُ العلاجِ العقلانيِّ – الانفعاليِّ، أنَّ هذا الإصرارَ يُرهقُ النفسَ ويُغذِّي الشعورَ بالفشلِ والذنبِ.
ويؤكِّدُ العالمُ الاجتماعيُّ البولنديُّ (زِغمونت باومان - Zygmunt Bauman)، في كتابِه (liquid love) في معرِضِ حديثِه عَنِ العلاقاتِ السائلةِ؛ أي الرخوةِ وغيرِ المستقرَّةِ وسريعةِ الانحلالِ، أنَّ محاولةَ ترميمِ الشخصِ الذي يُعيدُ ذاتَه دَوْمًا إلى الهشاشةِ عالمًا عامدًا لا غافلًا مقهورًا مسلوبَ الإرادةِ، تكرِّسُ نمطًا غيرَ صِحِّيٍّ مِنَ التعلُّقِ، يجعلُ الفردَ أسيرَ وَهْمٍ لا يتحقَّقُ.
الهجر الوقائيُّ للنجاة النفسيَّة
في ضوءِ ما تقدَّم، فإنَّ هجرانَ مَنْ استحبَّ العمى على الهدى، يصبحُ قرارًا ناضجًا، لا مِنْ بابِ القسوةِ بل مِنْ بابِ الحكمةِ؛ فالعلاقاتُ التي لا تُداوى تَعَنُّتًا، ينبغي أنْ تُدفنُ بكرامةٍ ضرورةً؛ حيثُ لا يُحتملُ بقاؤُها إلا على حسابِ تآكلِ النفسِ إيذانًا بانهيارِها.
وبناءً عليه، فإنَّ شعارَنا: "مَا لَا يُصْلَحُ تَرْكُهُ أَصْلَحُ، والهَجْرُ فِي بَعْضِ المَوَاطِنِ أَنْصَحُ"، ليس شعارًا عدميًّا، بل خلاصًا وقائيًّا، يُعيدُ للفردِ سلامَه الداخليَّ، ويجنِّبُه الاستنزافَ العاطفيَّ المستمرَّ.
توصيات
لا يُفْنِيَنَّ العاقلُ عمرَه وهو يرمِّمُ قلوبًا صدِئةً، أو يُنعِشُ ضمائرَ سقيمةً مهترئةً. فما نفعُ النفخِ في الفحمةِ المنطفئةِ؟! وما جدوى السقْيِ في التربةِ السَّبِخَةِ الوَبِئَةِ؟! وما أكثرَ مَنْ لا يُصْلِحُه دِينٌ، ولا تُهَذِّبُه سِنِينٌ، ولا يُنْضِجُه الزمنُ، ولا تُوقِظُه الفِتَنُ، ولا تُلْهِمُه المِحَنُ!
فلا تذهبَنَّ النفسُ على أمثالِهم بالحسراتِ، ولا تُبْخَعَنَّ إنْ لم يفقهوا الكلماتِ عَقِبَ الإشاراتِ، فلسْنا مكلَّفينَ أنْ نُهذِّبَ هؤلاءِ، بل أنْ نصونَ قلوبَنا مِنْ قسوةِ الجفاءِ وقلَّةِ الوفاءِ بمجانبةِ اللِّقاءِ.
- قالَ المسيحُ (عليه وعلى أمِّه السلام):
"لاَ تُعْطُوا القُدْسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" [متى ٧: ٦].
- وقالَ الخبيرُ تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩)} [الأعراف].
- وقِيل في الحكمةِ:
"المَاءُ لا يُطَهِّرُ مَا كَانَ فِي أَصْلِهِ نَجِسًا، والنُّورُ لا يُضِيءُ قَلْبًا أَبَى إِلَّا الظُّلْمَةَ".
- وقالَ الإمامُ الشافعيُّ:
"إِذا المَرءُ لا يَرْعَاكَ إِلّا تَكَلُّفًا
فَدَعْهُ وَلا تُكْثِرْ عَلَيْهِ التَأَسُّفَا
فَفُي النَّاسِ أَبْدَالٌ وَفُي التَّرْكِ رَاحَةٌ
وَفُي القَلْبِ صَبْرٌ لِلْحَبِيبِ وَلَوْ جَفَا"
- وقالوا في الحكمةِ الفرنسيَّةِ:
"La séparation et le divorce ne sont pas des tragédies.
La tragédie c'est de mourir à petit feu dans un couple malheureux".
يعني: ليستِ المأساةُ في الانفصالِ والطلاقِ، بلِ المأساةُ الحقيقيَّةُ في موتِ الزوجينِ البطيءِ على حرارةٍ هادئةٍ.
➖➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين علي الحسيني
واتساب: 009613804079
|