|
📖 جراح الطفولةوأقنعة الأنا
في كتابها (الجراح الخمس التي تمنع أنْ نكون أنفسنا)، تحدِّثنا (ليز بُورْبُو - Lise Bourbeau)، وهي كاتبة ومعالجة نفسيَّة كنديَّة متخصِّصة في التنمية الذاتيَّة والشفاء الروحيِّ والنفسيِّ، عن رحلة الإنسان في الحياة التي تبدأ ببراءة مطلقة، وقلب بصفحة بيضاء، ونفس متعطِّشة للحبِّ والقبول. غير أنَّ هذه البراءة كثيرًا ما تُجرَح في عمرٍ مبكر، فتتشكَّل في النفس تشقُّقات خفيَّة لا تراها العين، لكنَّها تطبع الشخصيَّة بطابع لا يُمحى، وتدفع (الأنا) لاحقًا - من حيث لا تدرك - إلى ارتداء (أقنعة)، تحاول من خلالها أنْ تحتمي من الألم، لكنَّها أيضًا تبعدها عن ذاتها الحقيقيَّة.
فما هي هذه الجراحات الخمسة؟ وما هي أقنعتها الدفاعيَّة؟ وما هو سبيل الشفاء منها؟
- Les 5 blessures qui empêchent d'être soi-même.
- The Five Wounds That Prevent You From Being Yourself.
1️⃣ جرح الرفض وقناع الهروب
- سبب جرح الرفض:
شعور الطفل أنَّه غير مرغوب فيه، أو أنَّ وجودَه ذاتَه مرفوضٌ من أحد الوالدَينِ...
- قناعه:
(الهروب): وهو آليَّة نفسيَّة تتبنَّاها الشخصيَّة للتجنُّب والانسحاب من المواقف أو العلاقات المؤلمة أو المهدَّدة، بهدف حماية النفس من المواجهة المباشرة.
- ملامحه النفسيَّة والسلوكيَّة:
. شعور عميق بعدم الأهميَّة أو الانتماء.
. رغبة مستمرة في الانعزال وتجنُّب الاندماج.
. ميل للهروب من الواقع عبر الخيال أو الانشغال الزائد.
. صعوبة في بناء علاقات مستقرَّة.
. سرعة التأثُّر بالنقد أو التهميش، وحساسيَّة مفرطة تجاه الإقصاء.
. الميل إلى تهميش الذات، وتبنِّي شخصيَّة باطنيَّة تتهرَّب من المواجهات والمسؤوليَّات خوفًا من الرفض الذي يذكِّره بذلك الرفض الأوَّليِّ، ويشعل جذوة آلامه المتجذِّرة فيه.
2️⃣ جرح الهجر وقناع التعلُّق
- سبب جرح الهجر:
ينشأ من هجران الوالدَينِ أو أحدهما أو مَنْ هو منوط به القيام بدور الحماية العاطفيَّة أو الجسديَّة؛ حيث يشعر الطفل أنه تُرك وحده في لحظة احتياج.
- قناعه:
(التعلُّق): وهو آليَّة نفسيَّة تتبنَّاها الشخصيَّة لتأمين شعور بالأمان والارتباط العاطفيِّ لتجنُّب الوحدة والفراغ الداخليِّ.
- ملامحه النفسيَّة والسلوكيَّة:
. لا يدخل في العلاقة سريعًا، بل يبدأ بتردُّد وخوف من التعلُّق، ولكن ما إنْ يشعر بالحبِّ أو الاهتمام، حتَّى يرتدي قناع (التعلُّق)، خاشيًا الفقد إلى حدِّ الهوس أحيانًا.
. حاجة مفرطة للشعور بالأمان العاطفيِّ.
. سلوكيَّات تضحية مفرطة لإرضاء الآخر.
. تنازل متكرِّر عن الذات خشية الفقد أو الهجر.
3️⃣ جرح الإذلال وقناع المازوشية
- سبب جرح الإذلال:
ينشأ عندما يشعر الطفل بالخزي أو الاحتقار بسبب جسده أو سلوكيَّاته أو احتياجاته الطبيعيَّة.
- قناعه:
(المازوشيَّة): وهو آليَّة نفسيَّة تتبنَّاها الشخصيَّة بالقسوة على ذاتها في سبيل إرضاء الآخرين من خلال المبالغة في خدمتهم على حساب راحتها واحتياجاتها، متقبِّلةً الألم أو الظلم الداخليَّ كنوع من العقاب، أو التعبير عن الشعور بعدم الاستحقاق.
إذًا، ليس المراد بـ(المازوشيَّة) هنا معناها المرضيَّ (التلذُّذ بالألم الجسديِّ أو النفسيِّ)، بل هو قناع نفسيٌّ يرتبط بـ(القسوة على الذات) من خلال الاستسلام لحالة الألم النفسيِّ الداخليِّ، وتحمُّل المعاناة بدافع من جرح الإذلال القديم، وليس التلذُّذ بالإيذاء.
- ملامحه النفسيَّة والسلوكيَّة:
. شعور عميق بالخزي والذنب، يصاحبه اعتقاد بعدم الاستحقاق وضرورة معاقبة الذات.
. تفانٍ مفرط في خدمة الآخرين، مع إهمال الذات وتحقير الاحتياجات الشخصيَّة.
. رفض الاستمتاع والشعور بالراحة، وكأنَّ اللَّذة نوع من الأنانيَّة أو الخطيئة.
. تقبُّل الإهانة والتقليل من الكرامة، مع صمت على الإساءات وتبريرها.
. إخفاء الألم خلف المزاح أو التظاهر بالمرح، مع قمع المشاعر الحقيقيَّة.
4️⃣ جرح الخيانة وقناع السيطرة
- سبب جرح الخيانة:
يولد من خيبة ثقة كبيرة، كأنْ يَعِدَ الوالدَينِ وعدًا ثمَّ يُخْلِفُه، أو أنْ يُشعر الطفل بعدم الأمان عند من كان ينبغي أنْ يحميه.
- قناعه:
(السيطرة): وهو آليَّة نفسيَّة تتبنَّاها الشخصيَّة للتحكُّم في بيئتها وعلاقاتها، لتحقيق الأمان والثقة، وتقليل الشعور بالضعف أو الانكسار.
- ملامحه النفسيَّة والسلوكيَّة:
. يميل إلى فرض السيطرة على كلِّ ما حوله.
. لا يثق بسهولة، فيحاول التحكم بالنتائج.
. لا يحبُّ المفاجآت، ويخطِّط لأدقِّ التفاصيل.
. يشعر بالقلق عندما لا تسير الأمور حسب إرادته.
. يكره الكذب والخيانة بشدَّة؛ لأنَّها تلامس الجرح الأصليَّ.
. يبرع في القيادة والتخطيط، لكنَّه يواجه صعوبة في التفويض أو الاسترخاء.
5️⃣ جرح الظلم وقناع التصلُّب
- سبب جرح الظلم:
ينشأ من بيئة باردة عاطفيًّا، تُبالغ في الطلبات، وتقيس بمعايير قاسية، وتُكافئ الأداء لا المشاعر؛ بمعنى أنَّها تركِّز على النتائج والسلوك الظاهريِّ، وليس على العالم العاطفيِّ للطفل.
بتفصيل أوضح:
يكافَأ الطفل إذا نجح، أنجز، أطاع، أتقن، تصرَّف بطريقة مثاليَّة، لكنَّه لا يُحتضن ولا يُقدَّر إذا عبَّر عن مشاعره الحقيقيَّة؛ مثل: الحزن، الخوف، الغضب، أو الضعف... لأنَّ المشاعر تُعتبر في هذه البيئة شيئًا غير مهمٍّ، أو مبالغًا فيه، بل ضعفًا.
- قناعه:
(التصلُّب): ويتمثَّل في بناء حاجز قويٍّ وصلب تجاه المحيط للحماية من الشعور بالضعف أو الظلم.
- ملامحه السلوكيَّة والنفسيَّة:
. تشدُّد في المبادئ والسلوك.
. رغبة دائمة في الكمال والسيطرة.
. كبح المشاعر واعتبارها ضعفًا.
. مواقف صارمة وغير مرنة.
. برود عاطفيٌّ وانطواء.
. دفاع مستمرٌّ عن العدالة والمنطق.
. صعوبة في الاعتراف بالخطأ.
. إحساس داخليٌّ بالغضب المكبوت والحاجة للاعتراف.
سبيل الشفاء (العودة إلى الذات)
المؤلم في هذه الجراحات الخمسة أنَّها تُخفي الإنسان عن نفسه، وتجعله يعيش وفق أقنعة يظنُّها حماية، لكنَّها في الحقيقة سجون معنويَّة لم يعترف بها، وهي فاعلة في خلفيَّته، وتدير تفاعلاته، وتشوِّه علاقاته.
أما سبيل الشفاء، فيبدأ بالسير نحو التحرُّر من (شخصيَّة الدفاع)، للعودة إلى (الذات الأصليَّة)؛ وذلك من خلال:
. الاعتراف بالجراح وعدم إنكارها.
. الوعي بالقناع الذي نرتديه وأنَّه لا يمثِّل (الأنا).
. التصالح مع الطفولة الداخليَّة.
خاتمة
ليست الطفولة مجرَّد مرحلة زمنيَّة في العمر، بل هي (البذرة) التي ينمو منها كلُّ ما يلي. فإنْ وُجِدت الجراح في ماضينا الطفوليِّ، فلا مفرَّ من الألم المستقبليِّ، لكنْ بوعيٍ ورغبةٍ صادقة في الشفاء، يمكن أنْ تسقط الأقنعة، ويعود الإنسان حرًّا وصادقًا معافًى.
➖➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين علي الحسيني
واتساب: 009613804079
|
