﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 العمل 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 04 / 28   ||   القرّاء : 13868

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله المعصومين، الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبعد..

الأول من أيار في ثمانينيات القرن التاسع عشر أعدمت الحكومة الأميركية النقابيين الأمريكيين "ساكو وفنزيتي"؛ إثر مظاهرة عمّالية احتجاجًا على ظروف العمل القاسية؛ حيث حدثت اشتباكات بين المتظاهرين وقوّات الشرطة، فقُتل رجل بوليس، وتم القبض على القياديين النقابيين (ساكو) و(فنزيتي)، فحوكما، وصدر الحكم بإعدامهما، ثم نفّذ الحكم رغم العديد من الاحتجاجات وعدم كفاية الأدلة. وقد ثبت بعد ذلك أن القتيل قُتِل بيد أحد زملائه، وأن الرصاصة انطلقت من مسدس شرطة! وهكذا اتخذ العالم الغربي هذا التاريخ وهو الأول من أيار من كل عام عيدا للعمال، ليكرّموا العامل، ويبرزوا فضله على المجتمع الإنساني.

مهما يكن من شيء، فإن الشريعة الإسلامية أوْلت العمل والعمّال عناية كبيرة، فأناطت جزاء الإنسان بقدر عمله, فقال تعالى في سورة النحل: >مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ<.

ثم حثّت الشريعة المسلمين على التكسّب وطلب الرزق، وبيّنت لهم أن الكسب باليد خيرُ ما يُجمع، وحذّرت أشد التحذير من الاعتماد على التسوّل واستجداء الناس والتذلّل لهم، لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة.

- قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "أبغض الخلق إلى الله، جيفة بالليل، بطّال بالنهار".

- وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الأيدي ثلاث: يد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد المُعطى أسفل الأيدي، فاستعِفّوا عن السؤال ما استطعتم. إن الأرزاق دونها حجب، فمن شاء قنى حياءه، وأخذ رزقه، ومن شاء هتك الحجاب، وأخذ رزقه، والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلا، ثم يدخل عرض هذا الوادي، فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه، ثم يدخل به السوق، فيبيعه بمد من تمر، ويأخذ ثلثه ويتصدق بثلثيه، خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو حرموه".

- وقال (صلى الله عليه وسلم): "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".

يتضح من هذه الأحاديث تأكيد الشريعة الإسلامية على أهمية العمل والاكتساب، وأن على كل فرد قادر أن  يسعى بنفسه لتحصيل ما يحتاجه من مقوِّمات الحياة، والله تعالى قد قدّر الأرزاق وكتبها، وعلى المرء أن يأخذ بالأسباب الممكنة لتحصيل الرزق وجمعه، وأن لا يبقى خاملا ينتظر رزقه، فإن الله تعالى أمر بالسعي في الأرض والتنقل بين أرجائها طلبا للعمل والكسب، قال تعالى: >هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ<.

والكسب باليد واتخاذ الحرف والصنائع سبيل أنبياء الله في الحياة، فهذا أبينا آدم (عليه السلام) كان حرّاثا، ونوح وزكريا (عليهما السلام) نجّارين، وشعيب (عليه السلام) راعيا، ولقمان خيّاطا، وطالوت دباغا، وقيل سقّاء. وهذا نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تاجرا. وقد أخبر الله تعالى عن سيدنا داود (عليه السلام) بقوله (جل شأنه): >وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ<. والمراد باللبوس هنا الدروع.

وبهذا يتضح أن  الله (جل وعلا) يأبى أن يسيّر الأمور إلا في أسبابها، لذا جعل العمل سببا لتحصيل الرزق، كما جعل تحريك قدم نبينا إسماعيل (عليه السلام) سببا لنبوع ماء زمزم. وأمر أمته مريم (عليها السلام) أن تهز بجذع النخلة تسبيبا لتساقط الرطب رغم ما بها من آلام المخاض، واكتئاب بلاء الحمل بلا زوج، وهو قادر على إسقاطه دون ذلك، فقال تعالى: > وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا<.

 هذه الآية أصّلت اتخاذ الأسباب وصولا إلى المسبَّبات، فالسبب سنّة الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة. ولله درّه الشاعر حينما قال:

"تَوَكَّلْ على الرَّحْمَنِ في الأمرِ كُلِّهِ          تَوَكُّلَ ذي عقلٍ نَحَـا مَنْهَجَ الأَدَبْ

فلا تَقْعُـدَنْ حِلْسَ البَطَالَةِ غَافِلاً          ولا تَرْغَبَنْ في العَجْزِ يَوْمًا عن الطَلَبْ

أَلَمْ تَــرَ أَنَّ اللهَ قَالَ لِمَــرْيَمَ            كما القَلَـمُ القُدْسِيُّ في لَوْحِهِ كَتَبْ

مُذْ انْفَرَدَتْ للهِ في ظِـِّل نَخْـلَةٍ            وَهُزِّي إِلَيْكِ الجِذْعَ تَسَّاقَطُ الرُّطَبْ

وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيَهُ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا            وَمِنْ غَيْرِ إِعْمَالِ الوَسَـائِلِ وَالتَّعَبْ

لَمَالَ إِلَيْهَا الجِـذْعُ حتى بِحِجْرِها            جَنَتْهُ وَلكنْ كُلُّ رِزْقٍ لَهُ سَبَبْ"

 

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مِثل علي بن الحسين (عليهما السلام) يدع خلفا، لفضل علي بن الحسين (عليهما السلام) حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليهما السلام)، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟! قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي (عليه السلام) - وكان رجلا بدينا - وهو متكىء على غلامين له أسودين - أو موليين له - فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش، في هذه الساعة، على هذه الحال، في طلب الدنيا! والله لأعظنه. فدنوت منه، فسلمت عليه، فسلّم علي ببهر، وقد تصبّب عرقا، فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش، في هذه الساعة، في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت في هذه الحال! قال: فخلى على الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال، لجاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي وأهلي عنك عن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: يرحمك الله! أردت أن أعظك فوعظتني".

ومما أوصى به جبرائيل (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، واعلم أن شرف المؤمن قيامُه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس".

ومن هنا نهيب بالجميع إلى السعي للتعلّم والتدرب على الحرف والصنائع المفتوحة آفاقها والمحتاج إليها الجميع. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لإعمار هذا الكون على الوجه الذي يريده منا ويرتضيه، وأن يوسع أرزاقنا، ويطيل أعمارنا في طاعته ومرضاته في خير ولطف وعافية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 صيغة الطلاق والشهود والشروط

 ألقاب الحروف

 الجواد شديد العقاب

 زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم السبت

 المد الواجب المتصل

 عدة من تعجل حيضها بالدواء

 الهادي البديع

 مكروهات الغسل

 محادثة الرجال والنساء

 الترتيب في الغسل

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net