|
🔴 ظاهرة الصخب في محرَّم
كُنَّا فيما مضى، إذا أقبل شهر محرَّم الحرام، نسمع أصوات مجالس العزاء مِنْ بيوتنا، ولكن القريبة مِنَ المساجد والحسينيَّات؛ حيث كان يقتصر ذلك على أوقات قراءة العزاء الحسينيِّ.
أمَّا اليوم، فقد أصبحنا نسمع الأصوات العالية طوال العشرة الأوائل من محرَّم صبح مساء حتى منتصف الليل، فنسمعها مِنْ كلِّ الجهَّات، حتى شكا إلينا الكثيرون، خاصَّة المرضى، والذين يعانون مِنِ أزمات عصبيَّة، فضلًا عَمَّنْ يعانون مِنِ اضطراب ما بعد الصدمة مِمَّنْ فقدوا أعزَّاءَهم، أو خرجوا مِنْ تحت الأنقاض، فلم يعودوا كغيرهم يحتملون الأصوات الصاخبة التي تثير ذكرياتهم المؤلمة؛ إذ لا يخفى أنَّه لم يمرَّ بعدُ على نهاية الحرب الضروس التي عشناها إلا أشهر قليلة، وما زلنا نعيش تحت ضربات محتملة للعدوِّ الصيهونيِّ في أيَّة لحظة، فضلًا عَنْ أجواء الحرب الإقليميًّة التي انتهت منذ أيَّام، والتي أثَّرت في نفوس مغظم القاطنين في بلادنا، غير ناسين لأصوات المسيَّرات التي تؤرِّقنا ليل نهار، خصوصا في الضاحية الجنوبيَّة.
والسؤال:
هل يجوز رفع الصوت بهذا القدر المفرط؟! وإن كان مَنْ يرفع الصوت يجد في ذلك مصلحة، فهل هذه المصلحة المدَّعاة أهمُّ مِلاكًا مِنْ عدم إيذاء الناس؟!
هنا يحضرني هذا الحديث الشريف الذي منع فيه النبيُّ أصحابه مِنْ رفع صوتهم بالأذان (الواجب)؛ وهو: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا(١) عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا". ومعنى (أربعوا على أنفسكم): أي اِرفقوا بأنفسكم، ولا تُجهدوها برفع الصوت، واهدؤوا.
- وقال عندما سمع قومًا يرفعون أصواتهم في المسجد: "إِنَّ المَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا، إنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللّٰهِ وَالصَّلَاةِ"؛ وقد جاء الأمر الإلهيُّ بعدم الجهر فيهما؛ فقال (عزَّ مِنْ قائل): {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [سورة الإسراء: ١١٠].
- كما ورد عَنِ النبيِّ في توجيهه العامِّ للخُلُقِ الحسن قوله: "إِنَّ اللّٰهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ". ومِنَ الرفق عدم رفع الصوت على الناس بلا سبب؛ إذ هو من الفظاظة والغلظة.
- وقال تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لصوتُ الحَمِيرِ﴾[لقمان: ١٩]. وقد فُسِّرَ هذا الأدب بأنَّه نهي عن رفع الصوت بلا حاجة، خصوصًا في حال إيذائه السامعين.
فلنتَّقِ اللّٰهَ حقَّ تقاتِه، ولنتأدَّب بأدب نبيِّ الإسلام الذي حرَّم أذيَّة الناس بأيِّ وجه، غير متعذِّرين بالسيرة الحسينيَّة، فإنَّ الحسين (عليه السلام) خرج وثار لإحياء سنَّة جدِّه، وإحياؤها لا يعوز الصراخ والصياح طوال اليوم.
أمَّا الهاوون للصخب مِمَّنْ يَرَوْنَ ضرورة إسماع كلِّ الناس معهم، فليقتصروا على سرد السيرة الحسينيَّة في أوقاتها.
وإنْ كانوا يرغبون في نشر مكبِّرات الصوت على امتداد الطرقات، فحبَّذا لو أنَّهم يقتصرون على مسيرة اليوم العاشر؛ إذ لا حاجة لإطلاق عنان (اللَّطميَّات) لعشرة أيَّام طوال اليوم حتى ساعة متأخِّرة مِنَ الليل.
وأختم:
أذكِّركم، وأذكِّر نفسي قبلكم، بأنَّ دين الحقِّ سبحانه دينٌ تامٌّ كاملٌ؛ وهو القائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة: ٣].
فلو عرفنا أنْ نُبَيِّنَهُ قولًا وفعلًا للسائلين والباحثين عَنِ الحقيقة، لَمَا جَنَفُوا عَنْ مَحَجَّتِهِ البيضاء؛ وقد قال الإمام الرضا (عليه السلام): "تَعَلَّمُوا عُلُومَنَا وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا"، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "كُونُوا زَيْنًا لَنَا وَلَا تَكُونُوا شَيْنًا عَلَيْنَا، حَتَّى يُقُولُوا: رَحِمَ اللّٰهُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَلَقَدْ أَدَّبَ أَصْحَابِهِ".
فانشروا رحمكم اللّٰه آثار آل محمَّد، وانهلوا دائما مِنْ معينها الصافي والخالص مِنَ البدع والافتراءات التي أُلْصِقَتْ بتعاليمهم زُورًا وبهتانًا، فَهُمْ (عليهم السلام) براءٌ مِنْ كلِّ قول وفعل فيهما أذى لعباد اللّٰه تعالى، وهو العالم بحقائق الأمور.
➖➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين علي الحسيني
واتساب: 009613804079
|
